فصل: الفصل الثالث والثلاثون في إنكار ثمرة الكيمياء واستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عن انتحالها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل الثالث والثلاثون في إنكار ثمرة الكيمياء واستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عن انتحالها

اعلم أن كثيراً من العاجزين عن معاشهم تحملهم المطامع على انتحال هذه الصنائع ويرون أنها أحد مذاهب المعاش ووجوهه وأن اقتناء المال منها أيسر وأسهل على مبتغيه فيرتكبون فيها من المتاعب والمشاق ومعاناة الصعاب وعسف الحكام وخسارة الأموال في النفقات زيادة على النيل من غرضه والعطب آخراً إذا ظهر على خيبة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً‏.‏ وإنما أطعمهم في ذلك رؤية أن المعادن تستحيل وينقلب بعضها إلى بعض للمادة المشتركة فيحاولون بالعلاج صيرورة الفضة ذهباً والنحاس والقصدير فضة ويحسبون أنها من ممكنات عالم الطبيعة ولهم في علاج ذلك طرق مختلفة لاختلاف مذاهبهم في التدبير وصورته وفي المادة الموضوعة عندهم للعلاج المسماة عندهم بالجحر المكرم هل هي العذرة أو الدم أو الشعر أو البيض أو كذا أو كذا مما سوى ذلك‏.‏ وجملة التدبير عندهم بعد تعين المادة أن تمهى بالفهر على حجر صلد أملس وتسقى أثناء إمهائها بالماء بعد أن يضاف إليها من العقاقير والأدوية ما يناسب القصد منها ويؤثر في انقلابها إلى المعدن المطلوب‏.‏ ثم تجفف بالشمس من بعد السقي أو تطبخ بالنار أو تصعد أو تكلس لاستخراح مائها أو ترابها‏.‏ فإذا رضي بذلك كله من علاجها وتم تدبيره على ما اقتضته أصول صنعته حصل من ذلك كله تراب أو مائع يسمونه الإكسير ويزعمون أنه إذا القي على الفضة المحماة بالنار عادت ذهباً أو النحاس المحمى بالنار عاد فضة على حسب ما قصد به في عمله‏.‏ ويزعم المحققون منهم أن ذلك الإكسير مادة مركبة من العناصر الأربعة حصل فيها بذلك العلاج الخاص والتدبير مزاج ذو قوى طبيعية تصرف ما حصلت فيه إليها وتقلبه إلى صورتها ومزاجها وثبت فيه ما حصل فيها من الكيفيات والقوى كالخميرة للخبز تقلب العجين إلى ذاتها وتعمل فيه ما حصل لها من الانفشاش والهشاشة ليحسن هضمه في المعدة ويستحيل سريعاً إلى الغذاء‏.‏ وكذا إكسير الذهب والفضة فيما يحصل فيه من المعان يصرفه إليهما ويقلبة إلى صورتهما‏.‏ هذا محصل زعمهم على الجملة فتجدهم عاكفين على هذا العلاج يبتغون الرزق والمعاش فيه ويتناقلون أحكامه وقواعده من كتب لأئمة الصناعة من قبلهم يتداولونها بينهم ويتناظرون في فهم لغوزها وكشف أسرارها إذ هي في الأكثر تشبه المعمى‏.‏ كتأليف جابر بن حيان في رسائله السبعين ومسلمة المجريطي في كتابه رتبة الحكيم والطغرائي والمغيربي في قصائده العريقة في إجادة النظم وأمثالها ولا يحلون من بعد هذا كله بطائل منها‏.‏ فاوضت يوماً شيخنا أبا البركات التلفيفي كبير مشيخة الأندلس في مثل ذلك ووقفته على بعض التآليف فيها فتصفحه طويلاً ثم رده إلي وقال لي وأنا الضامن له أن لا يعود إلى بيته إلا بالخيبة‏.‏ ثم منهم من يقتصر في ذلك على الدلسة فقط‏.‏ إما الظاهرة كتمويه الفضة بالذهب أو النحاس بالفضة أو خلطهما على نسبة جزء أو جزأين أو ثلاثة أو الخفية كإلقاء الشبه بين المعادن لصناعة مثل تبييض النحاس وتليينه بالزوق المصعد فيجيء جسماً معدنياً شبيهاً بالفضة ويخفى إلا على النقاد المهرة فيقدر أصحاب هذه الدلس مع دلستهم هذه سكة يسربونها في الناس ويطبعونها بطابع السلطان تمويهاً على الجمهور بالخلاص وهؤلاء أخس الناس حرفة وأسؤاهم عاقبة لتلبسهم بسرقة أموال الناس فإن صاحب هذه الدلسة إنما هو يدفع نحاساً في الفضة وفضة في الذهب ليستخلصها لنفسه فهو سارق وأشر من السارق‏.‏ ومعظم هذا الصنف لدينا بالمغرب من طلبة البربر المنتبذين بأطراف البقاع ومساكن الأغمار يأوون إلى مساجد البادية ويموهون على الأغنياء منهم بأن بأيديهم صناعة الذهب والفضة والنفوس مولعة بحبهما والاستهلاك في طلبهما فيحصلون من ذلك على معاش‏.‏ ثم يبقى ذلك عندهم تحت الخوف والرقبة إلى أن يظهر العجز وتقع الفضيحة فيفرون إلى موضع آخر ويستجدون حالاً آخرى في استهواء بعض أهل الدنيا بأطماعهم فيما لديهم‏.‏ ولا يزالون كذلك في ابتغاء معاشهم‏.‏ وهذا الصنف لا كلام معهم لأنهم بلغوا الغاية في الجهل والرداءة والاحتراف بالسرقة ولا حاسم لعلتهم إلا اشتداد الحكام عليهم وتناولهم من حيث كانوا وقطع أيديهم متى ظهروا على شأنهم لأن فيه إفساداً للسكة التي تعم بها البلوى وهي متمول الناس كافة‏.‏ والسلطان مكلف بإصلاحها والاحتياط عليها والاشتداد على مفسديها‏.‏ وأما من انتحل هذه الصناعة ولم يرض بحال الدلسة بل استنكف عنها ونزه نفسه عن إفساد سكة المسلمين ونقودهم وإنما يطلب إحالة الفضة للذهب والرصاص والنحاس والقصدير إلى الفضة بذلك النحو مع العلاج وبالإكسير الحاصل عنده فلنا مع هؤلاء متكلم وبحث في مداركهم لذلك‏.‏ مع أنا لا نعلم أن أحداً من أهل العلم تم له هذا الغرض أو حصل منه على بغية‏.‏ إنما تذهب أعمارهم في التدبير والفهر والصلابة والتصعيد والتكليس واعتيام الأخطار بجمع العقاقير والبحث عنها‏.‏ ويتناقلون في ذلك حكايات وقعت لغيرهم ممن تم له الغرض منها أو وقف إلى الوصول يقنعون باستماعها والمفاوضة فيها ولا يستريبون في تصديقها شأن الكلفين المغرمين بوساوس الأخبار فيما يكلفون به فإذا سئلوا عن تحقيق ذلك بالمعاينة أنكروه وقالوا إنما سمعنا ولم نر‏.‏ هكذا شأنهم في كل عصر وجيل‏.‏ واعلم أن انتحال هذه الصنعة قديم في العالم وقد تكلم الناس فيها من المتقدمين والمتأخرين‏.‏ فلننقل مذاهبهم في ذلك ثم نتلوه بما يظهر فيها من التحقيق الذي عليه الأمر في نفسه فنقول‏:‏ إن مبنى الكلام في هذه الصناعة عند الحكماء على حال المعادن السبعة المنطرقة وهي الذهب والفضة والرصاص والقصدير والنحاس والحديد والخارصين‏:‏ هل هي مختلفات بالفصول وكلها أنواع قائمة بأنفسها أو أنها مختلفة بخواص من الكيفيات وهي كلها أصناف لنوع واحد فالذي ذهب إليه أبو نصر الفارابي وتابعه عليه حكماء الأندلس أنها نوع واحد وأن اختلافها إنما هو بالكيفيات من الرطوبة واليبوسة واللين والصلابة والألوان من الصفرة والبياض والسواد وهي كلها أصناف لذلك النوع الواحد‏.‏ والذي ذهب إليه ابن سينا وتابعه عليه حكماء المشرق أنها مختلفة بالفصول وانها أنواع متباينة كل واحد منها قائم بنفسه متحقق بحقيقته له فصل وجنس شأن سائر الأنواع‏.‏ وبنى أبو نصر الفارابي على مذهبه في اتفاقها بالنوع إمكان انقلاب بعضها إلى بعض لإمكان تبدل الأغراض حينئذ وعلاجها بالصنعة‏.‏ فمن هذا الوجه كانت صناعة الكيمياء عنده ممكنة سهلة المأخد‏.‏ وبنى أبو علي ابن سينا على مذهبه في اختلافها بالنوع إنكار هذه الصنعة واستحالة وجودها بناء على أن الفصل لا سبيل بالصناعة إليه وإنما يخلقه خالق الأشياء ومقدرها وهو الله عز وجل‏.‏ والفصول مجهولة الحقائق رأساً بالتصور فكيف يحاول انقلابها بالصنعة‏.‏ وغلطه الطغرائي من أكابر أهل هذه الصناعة في هذا القول‏.‏ ورد عليه بأن التدبير والعلاج ليس في تخليق الفصل وإبداعه إنما هو إعداد المادة لقبوله خاصة و الفصل يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه وبارئه كما يفيض النور على الأجسام بالصقل والإمهاء‏.‏ ولا حاجة بنا في ذلك إلى تصوره ومعرفته قال‏:‏ وإذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مع الجهل بفصولها مثل العقرب من التراب والنتن ومثل الحيات المتكونة من الشعر ومثل ما ذكره أصحاب الفلاحة من تكوين النحل إذا فقدت من عجاجيل البقر‏.‏ وتكوين القصب من قرون ذوات الظلف وتصييره سكراً بحشو القرون بالعسل بين يدي ذلك الفلح للقرون فما المانع إذاً من العثور على مثل ذلك في الذهب والفضة فتتخذ مادة تضيفها للتدبير بعد أن يكون فيها استعداد أول لقبول صورة الذهب والفضة‏.‏ ثم تحاولها بالعلاج إلى أن يتم فيها الاستعداد لقبول فصلها‏.‏ انتهى كلام الطغرائي بمعناه‏.‏ وهذا الذي ذكره في الرد على ابن سينا صحيح‏.‏ لكن لنا في الرد على أهل هذه الصناعة مأخذاً آخر يتبين منه استحالة وجودها وبطلان مزعمهم أجمعين لا الطغرائي ولا ابن سينا‏.‏ وذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعاً ويحاذون في تدبيرها وعلاجها تدبير الطبيعة في الجسم المعدني حتى إحالته ذهباً أو فضة ويضاعفون القوى الفاعلة والمنفعلة ليتم في زمان أقصر‏.‏ لأنه تبين في موضعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله وتبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف وثمانين من السنين دورة الشمس الكبرى‏.‏ فإذا تضاعفت القوى والكيفيات في العلاج كان زمن كونه أقصر من ذلك ضرورة على ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة تصيرها كالخميرة فتفعل في الجسم المعالج الأفاعيل المطلوبة في إحالته وذلك هو الإكسير على ما تقدم‏.‏ واعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية فلا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النسبة لمأ تم امتزاجها فلا بد من الجزء الغالب على الكل‏.‏ ولا بد في كل ممتزج من المولدات من حرارة غريزية هي الفاعلة لكونه الحافظة لصورته‏.‏ ثم كل متكون في زمان فلا بد من اختلاف أطواره وانتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور حتى ينتهي إلى غايته‏.‏ وانظر شأن الإنسان في طور النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم التصوير ثم الجنين ثم المولود ثم الرضيع ثم ثم إلى نهايته‏.‏ ونسب الأجزاء في كل طور تختلف في مقاديرها وكيفياتها وإلا لكان الطور بعينه الأول هو الآخر وكذا الحرارة الغريزية في كل طور مخالفة لها في الطور الآخر‏.‏ فانظر إلى الذهب ما يكون له في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين وما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء إلى أن يساوق فعل الطبيعة في المعدن ويحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتم‏.‏ ومن شرط الصناعة أبداً تصور ما يقصد إليه بالصنعة‏.‏ فمن الأمثال السائرة للحكماء‏:‏ أول العمل آخر الفكرة وآخر الفكرة أول العمل‏.‏ فلا بد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعددة ونسبها المتفاوتة في كل طور واختلاف الحار الغريزي عند اختلافها ومقدار الزمان في كل طور وما ينوب عنه من مقدار القوى المضاعفة ويقوم مقامه حتى يحاذي بذلك كله فعل الطبيعة في المعدن أو تعد لبعض المواد صورة مزاجية تكون كصورة الخميرة للخبز وتفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها ومقاديرها‏.‏ وهذه كلها إنما يحصرها العلم المحيط والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك‏.‏ وإنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصنعة بمثابة من يدعي بالصنعة تخليق إنسان من المني‏.‏ ونحن إذا سلمنا له الإحاطة بأجزائه ونسبته وأطواره وكيفة تخليقه في رحمه وعلم ذلك علماً محصلاً بتفاصيله حتى لا يشذ منه شيء عن علمه سألنا له تخليق هذا الإنسان وأنى له ذلك‏!‏‏!‏‏.‏ ولنقرب هذا البرهان بالاختصار ليسهل فهمه فنقول‏:‏ حاصل صناعة الكيمياء وما يدعونة بهذا التدبير أنه مساوقة الطبيعة المعدنية بالفعل إلى الصناعي ومحاذاتها به إلى أن يتم كون الجسم المعدني أو تخليق مادة بقوى وأفعال وصورة مزاجية تفعل في الجسم فعلاً طبيعياً فتصيره وتقلبه إلى صورتها‏.‏ والفعل الصناعي مسبوق بتصورات أحوال الطبيعة المعدنية التي يقصد مساوقتها أو محاذاتها أو فعل المادة ذات القوى فيها تصوراً مفصلاً واحدة بعد أخرى‏.‏ وتلك الأحوال لا نهاية لها والعلم البشري عاجز عن الإحاطة بما دونها وهو بمثابة من يقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات‏.‏ هذا محصل هذا البرهان وهو أوثق ما علمته وليست الاستحالة فيه من جهة الفصول كما رأيته ولا من الطبيعة إنما هو من تعذر الإحاطة وقصور البشر عنها‏.‏ وما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك وله وجه آخر في الاستحالة من جهة غايته‏.‏ وذلك أن حكمة الله في الحجرين وندورهما أنهما قيم لمكاسب الناس ومتمولاتهم‏.‏ فلو حصل عليهما بالصنعة لبطلت حكمة الله في ذلك وكثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء‏.‏ وله وجه آخر من الاستحالة أيضاً وهو أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأعوص والأبعد‏.‏ فلو كان هذا الطريق الصناعي الذي يزعمون أنه صحيح وأنه أقرب من طريق الطبيعة في معدنها وأقل زماناً لما تركته الطبيعة إلى طريقها الذي سلكته في كون الفضة والذهب وتخلقهما‏.‏ وأما تشبيه الطغرائي هذا التدبير بما عثر عليه من مفردات مثاله في الطبيعة كالعقرب والنحل والحية وتخليقها فأمر صحيح في هذه أدى إليه العثور كما زعم‏.‏ وأما الكيمياء فلم ينقل عن أحد من أهل العلم أنه عثر عليها ولا على طريقها وما زال منتحلوها يخبطون فيها خبط عشواء إلى هلم جرا ولا يظفرون إلا بالحكايات الكاذبة‏.‏ ولو صح ذلك لأحد منهم لحفظه عنه أولاده أو تلميذه وأصحابه وتنوقل في الأصدقاء وضمن تصديقه صحة العمل بعده إلى أن ينتشر ويبلغ إلينا أو إلى غيرنا وأما قولهم إن الإكسير بمثابة الخميرة وأنه مركب يحيل ما يحصل فيه ويقلبه إلى ذلك فاعلم أن الخميرة إنما تقلب العجين وتعده للهضم وهو فساد والفساد في المواد سهل يقع بأيسر شيء من الأفعال والطبائع‏.‏ والمطلوب بالإكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه وأعلى فهو تكوين وصلاح والتكوين أصعب من الفساد فلا يقاس الإكسير بالخميرة‏.‏ وتحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما تزعم الحكماء المتكلمون فيها مثل جابر بن حيان ومسلمة بن أحمد المجريطي وأمثالهم فليست من باب الصنائع الطبيعية ولا تتم بأمر صناعي‏.‏ وليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية وسائر الخوارق وما كان من ذلك للحلاج وغيره وقد ذكر مسلمة في كتاب الغاية ما يشبه ذلك‏.‏ وكلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى‏.‏ وهذا كلام جابر في رسائله‏.‏ ونحو كلامهم فيه معروف ولا حاجة بنا إلى شرحه‏.‏ وبالجملة فأمرها عندهم من كليات المواد الخارجة عن حكم الصنائع‏.‏ فكما لا يتدبر ما منه الخشب والحيوان في يوم أو شهر خشباً أو حيواناً فيما عدا مجرى تخليقه كذلك لا يتدبر ذهب من مادة الذهب في يوم ولا شهر ولا يتغير طريق عادته إلا بإرفاد مما وراء عالم الطبائع وعمل الصنائع فكذلك من طلب الكيمياء طلباً صناعياً ضيع ماله وعمله‏.‏ ويقال لهذا التدبير الصناعي التدبير العقيم لأن نيله إن كان صحيحاً فهو واقع مما وراء الطبائع والصنائع فهو كالمشي على الماء وامتطاء الهواء والنفوذ في كثائف الأجساد ونحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة أو مثل تخليق الطير ونحوها من معجزات الأنبياء‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني ‏"‏‏!‏‏.‏ وعلى ذلك فسبيل تيسيرها مختلف بحسب حال من يؤتاها‏.‏ فربما أوتيها الصالح ويؤتيها غيره فتكون عنده معارة‏.‏ وربما أوتيها الصالح ولا يملك إيتاءها فلا تتم في يد غيره‏.‏ ومن هذا الباب يكون عملها سحرياً فقد تبين أنها إنما تقغ بتأثير النفوس وخوارق العادة إما معجزة أو كرامة أو سحراً‏.‏ ولهذا كان كلام الحكماء كلهم فيها ألغازاً لا يظفر بحقيقته إلا من خاض لجة من علم السحر واطلع على تصرفات النفس في عالم الطبيعة‏.‏ وأمور خرق العادة غير منحصرة ولا يقصد أحد إلى تحصيلها‏.‏ والله بما يعملون محيط‏.‏ وأكثر ما يحمل على التماس هذه الصناعة وانتحالها هو كما قلناه العجز عن الطرق الطبيعية للمعاش وابتغاؤه من غير وجوهه الطبيعية كالفلاحة والتجارة والصناعة فيستصحب العاجز ابتغاءه من هذه ويروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير طبيعية من الكيمياء وغيرها‏.‏ وأكثر من يعنى بذلك الفقراء من أهل العمران‏.‏ وللناس أقوال كثيرة - حتى في الحكماء المتكلمين في إنكارها واستحالتها‏.‏ فإن ابن سينا القائل باستحالتها كان علية الوزراء فكان من أهل الغنى والثروة والفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر الذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش وأسبابه‏.‏ وهذه تهمة ظاهرة في أنظار النفرس المولعة بطرقها وانتحالها‏.‏ والله الرزاق

  الفصل الرابع والثلاثون في أن كثرة التآليف في العلوم

عائقة عن التحصيل اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف واختلاف الاصطلاحات في التعليم وتعدد طرقها ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك‏.‏ وحينئذ يسلم له منصب التحصيل فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طرقها‏.‏ ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها فيقع القصور ولا بد دون رتبة التحصيل‏.‏ ويمثل ذلك من شأن الفقه في المذهب المالكي بالكتب المدونة مثلاً وما كتب عليها من الشروحات الفقهية مثل كتاب ابن يونس واللخمي وابن بشير والتنبيهات والمقدمات والبيان والتحصيل على العتبية وكذلك كتاب ابن الحاجب وما كتب عليه‏.‏ ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية والبغدادية والمصرية وطرق المتأخرين عنهم والإحاطة بذلك كله وحينئذ يسلم له منصب الفتيا وهي كلها متكررة والمعنى واحد‏.‏ والمتعلم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها والعمر ينقضي في واحد منها‏.‏ ولو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط لكان الأمر دون ذلك بكثير وكان التعليم سهلاً ومأخذه قريباً ولكنه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها ولا تحويلها‏.‏ ويمثل أيضاً علم العربية من كتاب سيبويه وجميع ما كتب عليه وطرق البصريين والكوفيين والبغداديين والأندلسيين من بعدهم وطرق المتقدمين والمتأخرين مثل ابن الحاجب وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك‏.‏ وكيف يطالب به المتعلم وينقضي عمره دونه ولا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد من تآليف رجل من أهل صناعة العربية من أهل مصر يعرف بابن هشام ظهر من كلامه فيها أنه استولى على غاية من ملكة تلك الصناعة لم تحصل إلا لسيبويه وابن جني وأهل طبقتهما لعظم ملكته وما أحاط به من أصول ذلك الفن وتفاريعه وحسن تصرفه فيه‏.‏ ودل ذلك على أن الفضل ليس منحصراً في المتقدمين سيما مع ما قدمناه من كثرة الشواغب بتعدد المذاهب والطرق والتآليف ولكن فضل الله يؤتيه من يشاء‏.‏ وهذا نادر من نوادر الوجود وإلا فالظاهر أن المتعلم ولو قطع عمره في هذا كله فلا يفي له بتحصيل علم العربية مثلاً الذي هو آلة من الآلات ووسيلة فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة ولكن الله يهدي من يشاء‏.‏ في المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف وإلغاء ما سواها اعلم أن العلوم البشرية خزانتها النفس الإنسانية بما جعل الله فيها من الإدراك الذي يفيدها ذلك الفكر المحصل لها ذلك بالتصور للحقائق أولاً ثم بإثبات العوارض الذاتية لها أو نفيها عنها ثانياً إما بغير وسط أو بوسط حتى يستنتج الفكر بذلك مطالبه التي يعني بإثباتها أو نفيها‏.‏ فإذا استقرت من ذلك صورة علمية في الضمير فلا بد من بيانها لآخر‏:‏ إما على وجه التعليم أو على وجه المفاوضة تصقل الأفكار في تصحيحها‏.‏ وذلك البيان إنما يكون بالعبارة وهي الكلام المركب من الألفاظ النطقية التي خلقها الله في عضو اللسان مركبة من الحروف وهي كيفيات الأصوات المقطعة بعضلة اللهاة واللسان ليتبين بها ضمائر المتكلمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم وهذه رتبة أولى في البيان عما في الضمائر وإن كان معظمها وأشرفها العلوم فهي شاملة لكل ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاء على العموم‏.‏ وبعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية يؤدي بها ما في الضمير لمن توارى أو غاب شخصه وبعد أو لمن يأتي بعد ولم يعاصره ولا لقيه‏.‏ وهذا البيان منحصر في الكتابة وهي رقوم باليد تدل أشكالها وصورها بالتواضع على الألفاظ النطقية حروفاً بحروف وكلمات بكلمات فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقي فلهذا كانت في الرتبة الثانية واحداة فسمي هذا البيان‏.‏ يدل على ما في الضمائر من العلوم والمعارف فهو أشرفها‏.‏ وأهل الفنون معتنون بإيداع ما يحصل في ضمائرهم من ذلك في بطون الأوراق بهذه الكتابة لتعلم الفائدة في حصوله للغائب والمتأخر وهؤلاء هم المؤلفون‏.‏ والتآليف بين العوالم البشرية والأمم الإنسانية كثير ومنتقلة في الأجيال والأعصار وتختلف باختلاف الشرائع والملل والأجيال عن الأمم والدول‏.‏ وأما العلوم الفلسفية فلا اختلاف فيها لأنها إنما تأتي على نهج واحد فيما تقتضيه الطبيعة الفكرية في تصور الموجودات على ما هي عليه جسمانيها وروحانيها وفلكيها وعنصريها ومجردها ومادتها‏.‏ فإن هذه العلوم لا تختلف وإنما يقع الاختلاف في العلوم الشرعية لاختلاف الملل أو التاريخية لاختلاف خارج الخبر‏.‏ ثم الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها وأشكالها ويسمى ذلك قلماً وخطاً‏.‏ فمنها الخط الحميري ويسمى المسند وهو كتابة حمير وأهل اليمن الأقدمين وهو يخالف كتابة العرب المتأخرين من مضر كما يخالف لغتهم‏.‏ وإن الكل عربياً‏.‏ إلا أن ملكة هؤلاء في اللسان والعبارة غير ملكة أولئك‏.‏ ولكل منهما قوانين كلية مستقراة من عبارتهم غير قوانين الآخرين‏.‏ وربما يغلط في ذلك من لا يعرف ملكات العبارة‏.‏ ومنها الخط السرياني وهو كتابة النبط والكلدانيين‏.‏ وربما يزعم بعض أهل الجهل أنه الخط الطبيعي لقدمه فإنهم كانوا أقدم الأمم وهذا وهم ومذهب عامي‏.‏ لأن الأفعال الاختيارية كلها ليس شيء منها بالطبع وإنما هو يستمر بالقدم والمران حتى يصير ملكة راسخة فيظنها المشاهد طبيعية كما هو رأي كثيرمن البلداء في اللغة العربية فيقولون‏:‏ العرب كانت تعرب بالطبع وتنطق بالطبع وهذا وهم‏.‏ ومنها الخط العبراني الذي هو كتابة بني عابر بن شالح من بني إسرائيل وغيرهم‏.‏ ومنها الخط اللطيني خط اللطينيين من الروم ولهم أيضاً لسان مختص بهم‏.‏ ولكل أمة من الأمم اصطلاح في الكتاب يعزى إليها ويختص بها‏.‏ مثل الترك والفرنج والهنود وغيرهم‏.‏ وإنما وقعت العناية بالأقلام الثلاثة الأولى‏.‏ أما السرياني فلقدمه كما ذكرنا وأما العربي والعبري فلتنزل القرآن والتوراة بهما بلسانهما‏.‏ وكان هذان الخطان بياناً لمتلوهما فوقعت العناية بمنظومهما أولاً وانبسطت قوانين لاطراد العبارة في تلك اللغة على أسلوبها لتفهم الشرائع التكليفية من ذلك الكلام الرباني‏.‏ وأما اللطيني فكان الروم وهم أهل ذلك اللسان لما أخذوا بدين النصرانية وهو كله من التوراة كما سبق في أول الكتاب ترجموا التوراة وكتب الأنبياء الإسرائيليين إلى لغتهم ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق‏.‏ وصارت عنايتهم بلغتهم وكتابتهم آكد من سواها‏.‏ وأما الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية وإنما هي لكل أمة بحسب اصطلاحها‏.‏ ثم إن الناس حصروا مقاصد التأليف التي ينبغي أولها استنباط العلم بموضرعه وتقسيم أبوابه وفصوله وتتبع مسائله أو استنباط مسائل ومباحث تعرض للعالم المحقق ويحرص على إيصاله بغيره لتعم المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف لعل المتأخر يظهر على تلك الفائدة كما وقع في الأصول في الفقه‏.‏ تكلم الشافعي أولاً في الأدلة الشرعية اللفظية ولخصها ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس واستوعبوها وانتفع بذلك من بعدهم إلى الآن‏.‏ وثانيها‏:‏ أن يقف على كلام الأولين وتآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام ويفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه لتصل الفائدة لمستحقها‏.‏ وهذه طريقة البيان لكتب المعقول والمنقول وهو فصل شريف‏.‏ وثالثها‏:‏ أن يعثر المتأخر على غلط اوخطإ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله وبعد في الإفادة صيته ويستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه فيحرص على إيصال ذلك لمن بعده إذ قد تعذر محوه ونزعه بانتشار التأليف في الآفاق والأعصار وشهرة المؤلف ووثوق الناس بمعارفه فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك‏.‏ ورابعها‏:‏ أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب انقسام موضوعه فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفن بكمال مسائله وفصوله وخامسها‏:‏ أن يكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها ولا منتظمة فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها ويهذبها ويجعل كل مسألة في بابها كما وقع في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم وفي العتبية من رواية العتبي عن أصحاب مالك فإن مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذب ابن أبي زيد المدونة وبقيت العتبية غير مهذبة‏.‏ فنجد في كل باب مسائل من غيره‏.‏ واستغنوا بالمدونة وما فعله ابن أبي زيد فيها والبرادعي من بعده‏.‏ وسادسها‏:‏ أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبه بعض ا لفضلاء إلى موضوع ذلك الفن وجميع مسائله فيفعل ذلك ويظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم كما وقع في علم البيان‏.‏ فإن عبد القاهر الجرجاني وأبا يوسف السكاكي وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو وقد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين مسائل كثيرة تننه الناس فيها لموضوع ذلك العلم وانفراده عن سائر العلوم فكتبت في ذلك تآليفهم المشهورة وصارت أصولاً لفن البيان ولقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم‏.‏ وسابعها‏:‏ أن يكون الشيء من التآليف التي هي أمهات للفنون مطولاً مسهباً فيقصد بالتأليف تلخيص ذلك بالاختصار والإيجاز وحذف المتكرر إن وقع مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول‏.‏ فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف ومراعاتها‏.‏ وما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه وخطأ عن الجادة التي يتعيين سلوكها في نظر العقلاء مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس من تبديل الألفاظ وتقديم المتأخر وعكسه أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن أو يأتي بما لا يحتاج إليه أو يبدل الصواب بالخطأ أو يأتي بما لا فائدة فيه‏.‏ فهذا شأن الجهل والقحة‏.‏ ولذا قال أرسطو لما عدد هذه المقاصد وانتهى إلى آخرها فقال‏:‏ وما سوى ذلك ففصل أو شره يعني بذلك الجهل والقحة‏.‏ نعوذ بالله من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه‏.‏ والله يهدي للتي هي أقوم‏.‏